کد مطلب:309767 شنبه 1 فروردين 1394 آمار بازدید:282

القسمت 04


السماء مرصعة بالنجوم... تتلألأ من بعید كلالئ منثورة.

حطّ المهاجرون عصا الترحال فی «ضجنان» وانحنی علی یعالج قدمیه و قد تفطرتا من المشی مئات الأمیال.

بركت النوق فوق الرمال تلتقط أنفاسها و تشم رائحة وطن قریب.

عینا فاطمة تسافران بین النجوم تستكشفان آفاق السماء... حیث انطلق أبوها فی رحلة الاسراء و المعراج علی ظهر البراق.

عینا فاطمة ما تزالان مسمرتین فی النجوم، و قد أزهر وجهها كوكب صغیر هبط علی الأرض، وبدا القمر فی آخر ساعات اللیل أصفر الوجه كما لو أجهده السهر،همست فاطمة فی نفسها تناجی:

- أنت وحدك الباقی... كلُّ شی ءٍ آخذ طریقه نحو المغیب، النجوم، القمر.. الأرواح البیضاء تتجه الیك لا تبالی بأشواك الطریق فی الصحراء حتّی لو كانت حافیة القدمین...


أنت وحدك الحق یا رب... أنت نور عینی و فرحة قلبی... دعنی ألج ملكوتك اسبحك واطوف مع النجوم حول عرشك.. أنت وحدك الحقیقة و ما سواك وهمٌ.. أنت وحدك نبع الحیاة وعداك سراب یحسبه الظمآن ماء.

فی «قبا» هبط جبرئیل یحمل كلمات السماء إلی رجل فرّ من اُمّ القری ینبئه عن مسار قافلة فیها ابنته و امرأة ربّته وفتی ربّاه فی حجره فلما اشتدّ ساعده وقف إلی جانبه یفدیه بنفسه...

فاح عبیر الوحی... ملأ فضاء «قبا» حیث بنی الرسول أوّل مسجد فی الإسلام:

- «والذین یذكرون اللَّه قیاماً وقعوداً و علی جنوبهم و یتفكرون فی خلق السماوات و الأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار. فاستجاب لهم ربّهم انی لا اُضیع عمل عامل منكم من ذكرٍ أو اُنثی بعضكم من بعض فالذین هاجروا من دیارهم و أوذوا فی سبیلی و قاتلوا و قتلوا لأُكفرنّ عنهم سیئاتهم و لأدخلنهم جنّاتٍ تجری من تحتها الأنهار ثواباً من عند اللَّه و اللَّه عنده حسن الثواب».

كان النبیّ یترقّب وصول القافلة المهاجرة فیها أخوه و ابنته و امرأة ربّته. كلمات جبریل ما تزال تطوف فی خیاله و هو ینظر إلی الأفق البعید ولكن لاشی ء سوی الرمال السمراء...


ولو قدّر لأحد كان فی «قبا» لرأی رجلاً قد ذرف علی الخمسین لیس بالطویل و لا القصیر كان ربعة «و قد جعل الخیر كله فی الربعة»؛ أزهر الوجه، ناصع البیاض مشرباً بحمرة خفیفة لعلّها من أثر الشمس و ریاح الصحراء، رجل الشعر یبلغ شحمة اُذنیه و یكاد یلامس منكبیه؛ واسع الجبین، مقوّس الحاجبین كهلالین، و كانت عیناه نجلاوین واسعتین؛ اقنی الأنف، كأنّ أسنانه لؤلؤ منضود فاذا مشی مشی الهوینی متقارب الخطی كزورق ینساب علی هون.

وقف النبیّ یتأمل الصحراء المترامیة تمسح عیناه الأفق البعید، ینتظر أحبّة فارقهم فی لحظة لیل وقد حاصرته ذئاب مكة.

غمر اللیل الصحراء و آب النبی إلی مضارب «بنی سهم»، وقد بدا علی وجهه حزن كحزن آدم یوم بحث فی الأرض عن حوّاء.

وصلت القافلة بسلام، وخفّ الأب للقاء ابنته ذكراه الغالیة من خدیجة... خدیجة التی رحلت بعیداً و تركته وحیداً.

عانقت البنت أباها. غرقت فی عبیر رجل سماوی، فاضت عیناها دموعاً، دموع فرح و دموع رحمة.

- یا لعذاب محمد.. یالعذاب الأنبیاء.

ربما دهشت بعض النسوة وهن یتطلعن إلی رجل ذرف علی الخمسین یجتاز فی لحظة نصف قرن من الزمن لیتحول إلی طفل


یرتمی فی أحضان أمه.

تمتم رسول السماء یضع حدّاً لأسئلة تناثرت فوق الرمال:

- فاطمة أُمّ أبیها.

فاطمة بربیعها الثالث عشر تتحول إلی أُمّ لأعظم الأنبیاء.

- و فاطمة بضعة منی.

نظر محمّد إلی عینی ابنته كان یبحث فیهما عن فتی شری نفسه للَّه.

- انه هناك یا أبه.. تشققت قدماه.. سال منهما الدمّ.. الشوك والرمضاء و مشاقّ الصحراء... و لا ناقة عنده و لا جمل.

تألقت عینا النبی:

- انّه أخی.

مضی محمّد للقاء أخیه المهاجر..

وهبَّ الفتی للقاء رسول السماء.. نسی آلامهُ.

رشّ الرسول كفیه برحیق النبوّة ثم مسح علی قدمی الفتی المهاجر، كأُمّ رؤوم تمسح رأس ولیدها لیغفو و ینام..

سافرت الآلام و وجد علی نفسه فی مهد امّه فی أحضان رجل ربّاه صغیراً.... فغفا و نام، ونهض الرجل المكی تاركاً ولید الكعبة یلتقط أنفاسه بعد رحلة مریرة فی رمال الصحراء.